وصلت إلى غرفة مساعد المفوض في سكوتلانديارد لأجد تافيرنر يُنهي سرده لتفصيلات التحقبيق قائلاً:
- و النتيجة أنني غادرتُهم و لم أحصل منهم على أي شيء! لا دوافع، لا أحد مهم كان معسراً، كل ما علمناه ضد بريندا و صديقها الشاب هو أنه كان يرمقها بنظراته عندما كانت تسكب له القهوة.
قلتُ: لا عليكم يا تافيرنر، يمكنني أن أضيف شيئاً أفضل من ذلك.
- حقاً؟ حسناً يا تشارلز، ماذا عندك؟
جلست أتحدث و قد أسندت ظهري إلى المقعد:
- كان روجر و زوجته يخططان للرحيل يوم الثلاثاء القادم، و قد التقى روجر مع والده لقاءً عاصفاً في اليوم الذي توفي فيه العجوز. اكتشف العجوز ليونايدز شيئاً غير طبيعي، و كان روجر يعترف أنه يستحق اللوم.
احمرّ وجه تافيرنر:
- من أين حصلت على هذه المعلومات؟ إن كنت حصلت عليها من الخدم...
- ماذا تقصد بقولك؟
- و إني أعترف – وفق القواعد المقررة في القصص البوليسية – بأنه – أو بالأصحّ بأنها – قد تفوقت على الشرطة. ثم إن التحري الخاص بي لديه أشياء خاصة ما يزال يحتفظ بها لنفسه.
فتح تافيرنر فمه ثم سكت مرة أخرى. أراد أن يسأل أسئلة كثيراً لكنه أدرك أن من الصعب أن يبدأ. ثم قال:
- روجر! أهو روجر ذلك الرجل؟
كرهت أن أفضي بهذا السر، فقد كنت أحب روجر ليونايدز. كرهت – و أنا أتذكر غرفته المريحة الجميلة و سحر الرجل الودود – أن ينطلق رجال العدالة علىأثره فيعتقلوه. ربما تكون أخبار جوزفين كلها غير موثوقة، لكنني – في الحقيقة – لم أكن أظن ذلك. قال تافيرنر:
- إذن الطفلة أخبرتك ذلك؟ إنها تبدو طفلة واعية لما يدور في ذلك البيت!
قال والدي معلّقاً:
- الأطفال هكذا في العادة.
لو كان هذا الخبر يقيناً فسوف يتغير الموقف كله. لو كان روجر كما زعمت جوزفين
(يختلس)) أموال شركة الغذاء، لو كان الرجل العجوز قد كشف أمره فيلزم روجر و زوجته اسكات العجوز ليونايدز و مغادرة إنكلترا قبل اكتشاف الحقيقة... ربما يكون روجر قد ارتكب هذه الجريمة!
تم الاتفاق على إجراء التحقيق في شؤون شركة التجهيز الغذائي فوراً دون تأخير. قال والدي:
- لو أن ذلك الرجل غادر لكانت كارثة شاملة. إنها مسألة تهم أناساً كثيراً، فهي تتعلق بملايين الناس.
- لو كانت الشركة في أزمة مالية أو ورطة فسوف تتضح الفرضية: الأب يستدعي روجر، ينهار روجر و يعترف. بريندا ليونايدز كانت خارجاً في السينما، فما كان على روجر إلا أن يغادر غرفة أبيه إلى الحمام و يفرغ زجاجة الأنسولين و يضع فيها محلولاً خالصاً من الإيسيرين ثم يكون ما كان.
أو أن زوجته فعلتْها: صعدت إلى الجناح الأخر بعد أن عادت إلى البيت ذلك اليوم مدعيةً أنها ذاهبة لتحضر غليون روجر الذي تركه هناك. كان بإمكانها أن تصعد هناك لتغير المحلول قبل أن تعود بريندا إلى البيت لتعطيه الحقنة. إنها رابطة الجأش و تقدر على فعل ذلك!
أومأت برأسي و قلت:
- نعم. كأني أراها هي من فعل الجريمة، فإن لديها قدرة عجيبة على ضبط نفسها و لجم انفعالاتها، و لا أظن أن روجر يخطر بباله السم وسيلة؛ لأن حيلة الأنسولين فيها رائحة أنثوية!
قال والدي بغلظة:
- كثير من الرجال يستعملون السم في القتل.
تافيرنر: أعرف يا سيدي، أتراني جاهلاص؟ لكني لا أظن روجر من هذا الصنف.
- و هل تذكر بريتشارد يا تافيرنر؟ لقد كان بريتشارد مازجاً ماهراً للسم!
- إذن لنفترض أنهما كانا مشتركين فيها معاً.
قالها تافيرنر و انصرف، و قال والدي:
- أيخطر ببالك يا تشارلز أنها تشبه الليدي ماكبث في رواية شكسبير؟
تخيلت المشهد: المرأة الجميلة تقف قرب النافذة في غرفة متقشفة، و قلت:
- ليس تماماً، فقد كانت الليدي ماكبيث امرأة جشعة كثيراً، و كليمنسي ليونايدز غير جشعة. أظن أنها لا تهتم بالمال و لا تحرص أن تحوزه و تملكه.
- لكن ألا يهمها نجاة زوجها و سلامته؟
- بلى، و ربما تكون طبعاً قاسية القلب.
... هذا ما قالته صوفيا: (( قسوة القلب))!
رفعت بصري لأرى الرجل العجوز يراقبني:
- فيم تفكر يا تشارلز؟
و لكني لم أخبره حينئذٍ.
***
دُعيت اليوم التالي فوجدت والدي و تافيرنر معاً. كان تافيرنر مسروراً قليلاً، و قال والدي:
- إن شركة التجهيز الغذائي على شفير الهاوية.
قال تافيرنر:
- أجل... إنها عرضة للانهيار في أية لحظة.
قلت: علمت أن الأسهم نزلت في الليلة الماضية نزولاً حاداً، لكنها عادت و ارتفعت هذا الصباح.
قال تافيرنر: يجب أن نتحقق بحذر شديد. لا نريد تحقيقات مباشرة تسبب الذعر أو تروع صاحبنا الذي يريد الفرار، فلدينا مصادر خاصة و الأخبار أكيدة تماماً. شركة التجهيز الغذائي على شفير الهاوية و قد تعجز أن تفي بالتزاماتها. هي تعاني من فساد الإدارة منذ عدة سنين.
- إدارة روجر ليونايدز؟
- نعم، إن سلطته قوية كما تعلم.
- و قد اختلس مالاً...؟
- لا، لا نظن أنه فعلها. قد يكون روجر قاتلاً و لكننا لا نعتقد أنه محتال، و بصراحة لقد كان أبله لا يملك أدنى حد من الحكمة، كان ينطلق حين يلزمه أن يتوقف، و يتردد و يتراجع حيث يجدر به الانطلاق و التقدم، و كان يعتمد على رجال و يوكل إليهم أعمالاً هم آخر من توكل إليهم مثلها. إنه رجل يثق بالناس الذي لا يستحقون الثقة، و في كل مرة و كل مناسبة يعمل العمل الخطأ!
قال والدي: رأيت رجالاً من صنفه، لكنهم ليسوا أغبياء في الحقيقة. إنهم يخطئون في الحكم على الرجال فحسب، و يتحمسون في وقتٍ لا ينبغي فيه الحماس.
قال تافيرنر:
- إن رجلاً مثل روجر لا يجب أن يسند إليه عمل من الأعمال بتاتاً.
- لعله لم يكن ليصبح ذلك لولا أنه ابن أريستايد ليونايدز.
- كانت الشركة حين عهد العجوز إليه بها شركة ناجحة، و كان ينبغي أن تصبح ((منجم ذهب)). لكنني أراه جلس مستريحاً و ترك الشركة تدير نفسها!
هز أبي رأسه و قال:
- لا. لا شركة تدير نفسها بنفسها، في كل شركة قرارات يجب اتخاذها: فصل هذا و توظيف ذاك، و أسئلة حول سياسة الشركة، أما روجر فيبدو أن أجوبته كانت دائماً خطأ!
قال تافيرنر:
- هذا صحيح. إنه رجل مخلص: أبقى على الموظفين الفاشلين لأنه يميل إليهم أو لأنهم كانوا يعملون في الشركة منذ دهر بعيد! ثم كانت له أحياناً أفكار طائشة غير عملية و كان يصرّ على تجربتها رغم نفقاتها الباهظة.
ألحّ والدي قائلاً:
- و لكن ألا توجد مخالفة جنائية؟
- لا مخالفة جنائية.
سألتُه: إذن فلمَ يقترف جريمة القتل؟
- ربما كان أحمق لا محتالاً، لكن النتيجة واحدة. كان الشيء الذي ينقذ هذه الشركة من الإفلاس مبلغاً ضخماً يتم تدبيره قبل – فتح دفتره و قرأ – ... قبل الأربعاء القادم على أبعد تقدير.
- مبلغ كالذي يرثه حسب وصية والده، أليس كذلك؟
- بالضبط.
- لكنه لم يكن ليستطيع الحصول على ذلك المبلغ نقداً.
- لكنه سيسهّل له الحصول على اعتماد أو قرض مصرفي.
أومأ الرجل العجوز برأسه موافقاً، قال:
- ألم يكن أسهل عليه أن يذهب للعجوز ليونايدز فيطلبَ منه مالاً؟
- لقد فعل لاذلك، هذا ما سمعتْه الطفلة، فلعل العجوز رفض صراحة أن يدفع خشية من الخسارة ثانية. لقد ذهب روجر إليه.
أظن أن تافيرنر كان على حق، فقد رفض أريستايد لونايدز دعم مسرحية ماجدا و قال بأنها لن تجني أرباحاً في شباك التذاكر. ثم تبيّن أنه على حق. كان ليونايدز رجلاً كريماً مع عائلته لكنه لا يضيّع المال في مشروعات غير رابحة، كما أن الشركة يساهم فيها الآلاف و ربما مئات الآلاف. لقد رفض صراحة، و ليس أمام روجر لكي يتجنب الإفلاس إلا وفاة والده. نعم، لابد من دافعٍ بالتأكيد.
نظر والدي في ساعته و قال:
- طلبت منه أن يحضر، سيكون هنا الآن في أية لحظة.
- روجر؟
- نعم.
همستُ:
- قالت العنكبوت للذبابة: ((هلاّ أتيتِ إلى بيتي؟)).
نظر تافيرنر إلي مندهشاً! قال بقسوة:
- سنأخذ منه حذرنا و نحترس.
بدأ العمل، و حضر الكاتب. و في الحال قرع جرس المكتب ثم، بعد بضع دقائق، دخل روجر ليونايدز الغرفة متلهفاً مرتبكاً، و تعثرت قدمه بأحد الكراسي فتذكرت كلباً ضخماً ودوداً و في الوقت نفسه قررت جازماً أنه ليس هو الذي نفذ العمل و بدل زجاجة الإيسيرين بلأنسولين، إذن لكان يسكرها أو يسكبها أو ترجف يده و يفشل في الحيلة بطريقة أو أخرى. لا... لا شك أن كليمنسي هي الفاعل و إن كان روجر متهماً بعلمه هذا العمل.
تدفقت الكلمات من فمه:
- هل أردت رؤيتي؟ هل وجدت شيئاً؟ مرحبا يا شارلز. لم أرك. جميل منك أن تأتي هنا. و لكني أرجوك أن تخبرني يا سير آرثر...
إنه رجل لطيف، و لكن كثيراً من القتله كانوا رجالاً لِطافاً، و ذلك ما كان يؤكده أصدقاؤهم المذهولون بعد جرائمهم. و ابتسمت محيّياً.
كان أبي رجلاً حازماً هادئاً يحترس في حديثه، فجرت كلماته عفوية: الشهادة.. سوف تدون... لا إكراه... محامٍ...
أزاح روجر ليونادز كل هذه الأشياء جانباً غير صابر، و رأيت ابتسامة المفتش تافيرنر الساخرة على وجهه فعرفت ما يخطر باله، كان يقول في نفسه: ((إنهم واثقون من أنفسهم. هؤلاء الأشخاص لا يخطئون. إنهم أذكياء!)).
و جلست في زاوية من الزوايا و أضغيت. قال والدي:
لقد دعوتْك هنا يا سيد روجر لا من أجل أن أعطيك معلومات جديدة و لكن لأطلب منك بعض المعلومات التي كتمتها من قبل.
بدا روجر ليونايدز متحيراً:
- كتمتها؟ لكني أخبرتك بكل شيء، كل شيء دون كتمان!
- لا، لقد جرى بينك و بين الفقيد حديث في مساء يوم مقتله، أليس كذلك؟
- بلى بلى، شربت معه الشاي. لقد أخبرتكم بذلك.
- أجل، أخبرتنا بذلك، لكنك لم تخبرنا ماذا دار بينكما.
- لقد... كان... حديثاً ليس غير.
- فيم تحدثتما؟
- في الأمور اليومية: البيت، صوفيا...
- فماذا عن شركة التجهيز الغذائي؟ هل ذكرتماها؟
تمنيت ساعتئذٍ أن تكون جوزفين قد اخترعت القصة كلها، لكن هذا الأمل سرعان ما تلاشى، فقد تغير وجه روجر، تغير في لحظة واحدة إلى شيء قريب من اليأس، و قال:
- يا إلهي!
و جلس على كرسي و غطى وجهه بيديه. ابتسم تافيرنر كالقطة المطمئنة:
- أتعترف يا سيد روجر أنك لم تكن صريحاً معنا؟
- كيف عرفتم بذلك؟ كنت أظن أنْ لا أحد كان يعلمه. لا أفهم كيف علمه غيري؟
- لدينا وسائلنا الخاصة في معرفة هذه الأمور يا سيد ليونايدز.
و سكت سكتة مهيبة ثم قال:
- أظن أنك تفهم الآن. من الأفضل لك أن تخبرنا بالحقيقة.
- نعم، نعم. بالطبع سأخبركم. ماذا تريدون أن تعرفوا؟
- هل صحيح أن شركة التجهيز الغذائي توشك أن تنهار؟
- نعم. لقد فات الآوان فلا أستطيع إنقاذها الآن! إن الانهيار آتٍ لا محالة! ليت أبي مات دون أن يعرف ذلك! إنني أشعر بالعار و الخزي الشديد...
- و هل هناك احتمال لحدوث مقاضاة جنائية؟
انتصب روجر في مكانه متحداً:
- لا. سيكون إفلاس لكنه إفلاس شريف: سندفع للمساهمين عشرين شلنا لكل جنيه ناهيك عن موجوداتي الشخصية. إن الخزي الذي أصابني سببه أنني خذلت والدي! لقد كات يثق بي و عهد بهذا العمل إليّ و هو أكبر اهتماماته. كان العمل المفضل لديه. إنه لم يتدخّل يوماً و لا سألني عما كنت أفعله. كان يثق بي لكنني خذلته!
قال أبي بجفاف:
- هل قلت: ((لا توجد مقاضاة جنائية))؟ إذن فلم خططت أنت و زوجتك للسفر دون إعلان أو خبر؟
- و تعرف هذا أيضا؟
- أجل يا سيد ليونايدز.
انحنى روجر إلى الأمام:
- لم أكن أستطيع مواجهته بالحقيقة، خشيت أن يفهم أني أطلب منه مالاً كأني أستنجد به ليوقفني على قدميّ مرة أخرى. لقد.. لقد كان يحبني كثيراً، و كان سيساعدني، لكني لم أستطع... لم أستطع المواصلة. كانت المواصلة تعني ورطة مرة أخرى. إني لا أصلح لهذا العمل، فليست عندي القدرة عليه. أنا لست مثل أبي. كنت أعلم بنفسي منه، لقد حاولت فلم أنفع. كنت تعيساً جداً! يا إلهي! إنك لا تعرف تعاستي التي ذقتها و أنا أحاول الخروج من المشكلة و أرجو رضاه و آمل ألاّ أضطر للبوح بالأمر للرجل العجوز! و لكن لم يَبْقَ أي أمل في تجنب الكارثة.
زوجتي كلمينسي، تفهّمت الأمر و وافقتني الرأي، و فكرنا في هذه الخطة معاً. لم نقل لأحد شيئا: نهرب و ندع العاصفة تثور.
كنت ساترك لأبي رسالة أفصّل الأمر له فيها و كيف أنني كنت أشعر بالخزي، و أتوسل إليه أن يسامحني! كان طيباً معي دائماً!
لكنّ الوقت كان متأخراً إن هو أراد أن يفعل شيئاً. ما كنت أريد منه المساعدة، كنت أريد أن أبدأ من جديد في مكان آخر. أحيا حياة بسيطة متواضعة: أزرع البُنّ و الفواكه لتكون عندي ضروريات الحياة فقط. و كان ذلك صعباً على زوجتي، لكنها أقسمت ألا تمانع. إنها رائعة. رائعة دون ريب!
قال أبي بجفاء:
- و ما الذي جعلك تغير رأيك؟
- أغيّر رأيي؟
- نعم، لماذا عزمت أن تذهب إلى أبيك و تطلب منه المساعدة المالية بعد كل هذا؟
حَدَقَ روجر إلى أبي و قال مندهشاً:
- لكني لم أفعل ذلك.
- هيّا يا سيد ليونايدز.
- لقد أخطأ من أبلغكم ذلك. أنا لم أذهب إليه، بل هو أرسل في طلبي. كأنه سمع – بطريقة ما – من أهل المدينة. لعلها كانت إشاعة، لكنه كان يعلم ما يجري حوله دائماً. صارحني أبي، ثم، أخبرته بكل شيء و قلت له بأن رحيلي ليس بسب المال و إنما إحساسي أني خذلته بعد أن وثق بي!
ثم تغير صوت روجر و جعل يتكلم بانفعال:
- لا يمكنك أن تتخيل كم كان الرجل العجوز طيباً معي. لم يوبخني، بل كان لطيفاً. أخبرته أنني لا أريد المساعدة و أفضّل ألا يساعدني و أنه من الخير أن أرحل كما كنت أخطط، لكنه ما كان ليضغي إليّ. لقد أصر على إنقاذي و على دعم شركة التجهيزات الغذائية لتستأنف عملها من جديد.
قال تافيرنر بحدة:
- أتريدنا أن نصدق أن والدك كان ينوي مساعدتك مادياً؟
- كان ينوي ذلك يقيناً، و قد أوصى سماسرته هنا و هناك من أجل مساعدتي.
قرأ روجر الشك في عيون الرجلين، فاحمرّ وجهه و قال:
- ما زلت أحتفظ بالرسالة. كنت سأرسلها بالبريد، لكني نسيتها من... من الصدمة و الفوضى! ربما أحضرتها و لعلها في جيبي الآن.
أخرج محفظته و بدأ يبحث فيها، و أخيراً وجد ما كان يريده. أخرج ظرفاًمجعداً عليه طابع، و كان عنوانه
(شركة غريتو ريكس و هانبري)). قال:
- فلتقرأْها بنفسك إن كنت لا تصدقني.
فتح والدي الرسالة، و ذهب تافيرنر وراءه. لم أر الرسالة وقتئذٍ لكني رأيتها من بعد: كانت تطلب من ((شركة غريتو و هانبري)) أن تسيّل استثمارات معينة و ترسل في اليوم التالي أحد أعضاء الشركة من أجل شروط معينة تتعلق بشؤون شركة التجهيز الغذائي. كان السيد أريستايد ليونايدز يتخذ الإجراءات اللازمة إيقاف الشركة على قدميها مرة أخرى.
احتفظ تافيرنر بالرسالة قائلاً:
- سنعطيك وصلاً بهذه الرسالة يا سيد ليونايدز.
أخذ روجر الصكّ و نهض قائلاً:
- هل من شيء آخر؟ هل فهمتم الآن الأمر كيف كان؟
قال تافيرنر:
- هل أعطاك السيد ليونايدز هذه الرسالة ثم غادرته، ماذا فعلت بعد ذلك؟
- رجعت سريعاً إلى جناحي الخاص في المنزل. كانت زوجتي قد دخلت لتوها فأخبرتها بنية والدي و كيف كان رائعاً. إنني – في الحقيقة – لم أعلم ماذا كنت أفعل!
- ثم مرض والدك، بعد كم من الوقت حدث ذلك؟
- دعني أتذكر... ربما نصف ساعة، أو ساعة. جاءت بريندا مسرعة خائفة، قالت بأنه يبدو غريباً. و قد... و قد انطلقت معها، لكني أخبرتكم بكل ذلك من قبل.
- خلال زيارتك الأولى لجناح والدك. هل ذهبت إلى الحمام المجاور لغرفته؟
- لا أظن. لا... لا... إني لم أفعل ذلك قطعاً. لماذا؟ لا. لا يمكن أن تظنوا أنني..
هدأ والدي مشاعر السخط المفاجئة. نهض و صافحه قائلاً:
- شكراً لك يا سيد ليونايدز! لقد ساعدتنا كثيراً، لكنْ كان يجب أن تخبرنا بهذا من قبل.
أغلق الباب وراء روجر. و نهضتُ لأنظر إلى الرسالة فوق طاولة والدي فيما رددّ تافيرنر متمنياً:
- يمكن أن تكون مزورة.
قال والدي: ربما. لكني لا أظن ذلك، علينا أن نقبل بها تماماً كما هي.
كان العجوز ليونايدز مستعداً ليخرج ابنه من هذه الورطة بطريقة فعّالة و هو ما يزال حياً بأفضل مما يستطيع روجر عمله بعد موته، لا سيّما بعد أن أصبح معروفاً الآن أن أحداً لم يجد الوصية فغدا نصيب روجر مشكوكاً فيه، و هذا يعني التأخير و العقبات، و حسب ما هي الحال عليه الآن فإن الكارثة قادمة! لا يا تافيرنر، ليس لدى روجر ليونايدز أو زوجته دافع لقتل العجوز. بل على العكس من ذلك...
سكت أبي و كرر كلمته الأخيرة متأملاً كأن فكرة خطرت له فجأة. سأله تافيرنر:
- ما الذي يدور في ذهنك يا سيدي؟
- لو أن أريستايد ليونايدز عاش 24 ساعة أخرى لكان روجر بخير! لكنه لم يعش 24 ساعة، مات فجأة بصورة مثيرة خلال ساعة أو أكثر قليلاً!
- هل تظن أن أحداً في البيت كان يسعى لإفلاس روجر؟ شخص له مصلحة مضادة، ألا ترى هذا؟
سأل والدي:
- ما هي حقيقة الوصية؟ من الذي يرث أموال ليونايدز في الواقع؟
تنهد تافيرنر عميقاً و قال:
- أنت تعلم مهنة المحاماة: المحامون لا تسمع منهم جواباً صريحا. هناك وصية سابقة كتبها حين تزوج بريندا. ثم هذه الوصية تقسم لبريندا النصيب نفسه، و أقل منه للآنسة دي هافيلاند و الباقي بين فيليب و روجر. لو لم تكن هذه الوزصية موقعة فإن الوصية القديمة ستكون معتمدة لكن الأمر يبدو صعباً. أولاً: إن كتابة الوصية الجديدة قد أبطلت السابقة، و عندنا شهود على إمضائها، و هناك ((نية الموصي)). لو تبين أنه مات و لم يوص إذن تفوز الأرملة بحصة مدى الحياة على أية حال!
- إذن فلو اختفت الوصية فإن بريندا ليونايدز هي أكثر الأشخاص انتفاعاً، أليس كذلك؟
- بلى. لو كان هناك خداع فلعلها تكون متورظة فيه. و من الواضح أن في الأمر خدعة، لكني لا أعلم كيف هي؟
لم اكن أعرف أنا الآخر. أظن أننا كنا حمقى؛ لأننا كنا ننظر للأمر من الزاوية الخطأ.
*
الجزء الثاني عشر خرج تافيرنر و مازلنا صامتْين. ثم قلت بعد برهة:
- كيف يكون شكل القتلة يا أبي؟
نظر الرجل العجوز متأملاً. كنا نفهم بعضنا جيداً ففهم ما كنت أفكر فيه حين سألته. و أجابني بجدية تامة:
- أجل. هذا مهم جدا بالنسبة لك، فقد أصبح القتل فريباً منك، فما عاد ممكنا أن نتظر إليه بعين المراقب البعيد.
كنت أهتم بعض القضابا المثيرة في المباحث الجنائية، لكني كنت – كما قال أبي – أطلّ عليها من بعيد. أما الآن فقد صار الأمر قريباً مني للغاية. و لا بد أن صوفيا قد أردكت ذلك بسرعة أكثر مما فعلت.
قال الرجل العجوز:
- لا أدري إن كنت أنا الذي ينبغي أن تسأله، أستطيع أن أوصلك باثنين من أطباء النفس الذين يؤدون أعمالاً لنا و تافيرنر يمكن أن يقدم لك بعض المعلومات الداخلية، و لعلك تريد أن تسمع رأيي أنا بسب خبرتي في المجرمين، أليس كذلك؟
قلت بامتنان:
- نعم، هذا ما أريده.
رسم والدي بأصبعه دائرة صغيرة على الطاولة:
- ما هو شكل القتلة؟
و ابتسم بسمة باهتة كئيبة و هو يضيف:
- بعضهم كان لطيفاً جداً.
لعلّي جفلتُ قليلاً. و استمر والدي قائلاً:
- نعم. كانوا لِطافاً مثلك و مثلي و مثل الرجل الذي خرج الآن روجر ليونايدز. القتل جريمة غير محترفَة. إنني أتحدث عن نوع الجرائم التي تفكر فيها و ليس جرائم العصابات. أشعر أحيانا كثيرة أن هؤلاء المجرمين اللطاف فوجئوا بجريمة القتل فاضطروا أن يرتكبوها بطريقة عارضة تقريباً، كأن يُحصَروا – مثلاً – في زاوية ضيقة أو أنهم يريدون شيئاً بإلحاح شديد كالمال أو المرأة، فيقتلون من أجلهما. إن الضمبير ساعتئذٍ يتعطل لديهم. الطفل يترجم رغبته في العمل دون وخز الضمير، و الطفل الذي يغضب على قطته يقول
(سوف أقتلك))، و يضرب رأسها بمطرقة، ثم يحزن لأن القطة قد ماتت. كم من رضيع يحاولون أخذ رضيع من عربته ليغرقوه لأنه يلفت الإنتباه أو يعكّر ملذاتهم. إن الأطفال يعرفون في مرحلة مبكرة جداً أن هذا ((خطأ)) فإن فعلوه عوقبوا، لكن كثيراً من الناس لا ينضجون إنفعالباً بالقدر الكافي: يدركون أن القتل عمل خاطئ لكنهم لا يحسون به. لا أعتقد – حسب تجرِبتي – أنني رأيت قاتلاً أصابه الندم حقاً، بل هو يبحث عن تعلليل لما ارتكبه متجاوزاً نفسه: ((كان ذلك هو الطريق الوحيد))، أو ((هو – الضحية – الذي سعى إلى حتفه))... إلخ
- لو كان أحد يكره العجوز منذ زمن بعيد، فهل يكون الكره سباً لقتله؟
- كراهية فحسب؟ هذا بعيد جداً حسب ظني...
و نظر إليَّ بفضول قائلاً:
حين تقول
(كراهية)) فإنني أظنه أنك تقصد أن الحب قد انقضى. كراهية الغيرة أمر مختلف؛ لأنه هذه تنشأ من التعلق و الإحباط. الناس يقولون بأن كونستانس كِنْت كانت تحب أخاها الرضيع الذي قتلته حباً كبيراً، لكننا نظن أنها كانت تريد نزع انتباه و محبة الآخرين له. الناس في الغالب يقتلون من يحبون أكثر من قتلهم من يكرهون؛ لأن الذين تحبهم هم وحدهم الذين يستطيعون أن يجعلوا حياتك لا تطاق!
لكن هذا لا يساعدك كثيراً، أليس كذلك؟ كأن الذي تريده يا تشارلز هو علامة ما أو إشارة تساعدك في كشف القاتل من بين أهل البيت الذي يبدون أناساً عاديين يبعثون على السرور، أليس كذلك؟
- نعم، هذا هو ما أريده.
- و هل ترى بينهم صفة مشتركة؟
و سكت قليلاً و هو يفكر ثم قال:
- لو كان كذلك فإنني أميل إلى القول بأنها الغرور.
- الغرور؟
- أجل، لم أَرَ قاتلاً غير مغرور. إن الغرور هو الذي يؤدي إلى كشفهم غالباً، ربما يخافون القبض عليهم، لكنهم لا يستطيعون كفّ نفوسهم عن التباهي و الاختيال، و هم عادة يكونون متأكدين أنهم أذكياء لا يمكن أن يمسك بهم أحد، و هنا شيء آخر: إن القاتل يريد أن يتحدث.
- يتحدث؟
- أجل، إن القاتل حين يقتل يصير في عزلة شديدة، فهو يحب أن يصارح أحداً بكل شيء، لكنه لا يستطيع. و هذا يجعله يريد أن يخبر بالمزيد، و هكذا: إن كان لا يستطيع أن يقول كيف فعل هذا فإنه يستطيع أن يتحدث عن القتل نفسه و يناقشه و يطرح نظريات لتدرسها.
لو كنت مكانك يا تشارلز لنتبهت لهذا الأمر. اذهب هناك مرةً أخرى و اقعدْ بينهم و اختلطْ بهم جميعاً و اجعلْهم يتحدثون. لن يكون عملاً سهلاً، و سواء كانوا مرجمين أو أبرياء فسيكونون سعداء بفرصة التحدث مع رجل غريب؛ لأنهم سيقولون لك أشياء لا يقولونها لبعضهم، و لعلك تستطيع أن تتبين الاختلاف، فالذي يريد أن يكتم شيئا في نفسه لا يطيق بالطبع الحديث معك، و كان رجال الاستخبارات يدركون ذلك بالطبع أيام الحرب. لو أنك أُسِرْتَ ستفشي اسمك و رتبتك و رقمك العسكري و لا شيء غيرها. أما الذي يحاولون إعطاء معلومات مزيفة فإن ألسنتهم تزل دائماً. فلتجعل أهل البيت يتحدثون يا تشارلز و راقب فيهم زلة اللسان أو لمحات الكشف عن الذات.
أخبرتُه عندها أن صوفيا تحدثت عن القسوة في العائلة، و ذكرتْ أنواعاً مختلفة منها، فاهتم بذلك اهتماماً كبيراً و قال:
- أجل، إن لدى فتاتك شيئاً في هذا الأمر، إن الصفات الوراثية شيء يثير الاهتمام. خذ على سبيل المثال قسوة دي هافيلاند، و ما يمكن أن نسميه عديمية الضمير عند ليونايدز. إن عائلة هافيلاند طبيعيين لأنهم ليسوا عديمي الضمير أما عائلة ليونايدز فهم رغم تجردهم من الضمير إلا أنهم عطوفون، و لكن أحدهم ورث هاتين الصفتين مجتمعتين. هل تفهم ما أعنيه؟
لم أفكر بهذه الطريقة تماماً، و قال والدي:
- لن أرهقك بالصفات الموروثة، فهذا أمر دقيق و معقّد جداً. اذهب يا ولدي و دعهم يحدثونك. إن فتاتك محقة تماماً في شيء واحد: لن ينفعك و ينفعها سوى الحقيقة.
ثم أضاف فيما كنت أغادر الغرفة: و احذْر الطفلة!
- جوزفين؟ تعني الاّ أبوح لها بما أنوي أن أفعله؟
- كلا، لم أقصد ذلك، بل أقصد أن تعتني بها، فلا نريد أن يصيبها شيء.
حَدَقْتُ إليه، فقال:
- هيا يا تشارلز، إن بين أهل البيت قاتلاً يقتل بدم بارد، و يظهر أن الطفلة جوزفين تعرف معظم ما يجري.
- إنها تعرف كل شيء عن روجر، و ربما أخطأت بالقفز إلى إستنتاجٍ بأنه محتال و لكن معلوماتها تبدو صحيحة!
- نعم، نعم. إن شهادة الطفل هي أفضل الشهادة و أنا أصدقها كل مرة، لكنها لا تفيد في المحكمة قطعاً؛ لأن الأطفال لا يطيقون توجيه الأسئلة المباشرة، بل تراهم يهمهمون و يبدون بلهاء و يقولون بأنهم لا يعرفون لكنهم يكونون في أفضل أحوالهم عندما يتباهون. سوف تسمع منها مزيداً بالطريقة نفسها: لا تسألها أسئلة، اجعلها تشعر أنك لا تعلم شيئاً لتثيرها، و لكنّ عليك أن تهتم بأمرها، فلعلها تعرف كثيراً من أجل سلامة إنسان!
*****
الجزء الثالث عشر[size=16][right]تركت أبي و دهبت إلى ((البيت المائل)) و شعور قليل بالذنب يلازمني، لقد كررت على مسمع تافيرنر أسرار جوزفين التي تتصل بروجر، لكنني لم أقل شيئاً حول مسألة بريندا و لورانس براون و رسائل الحب.
إني معذور، فقد حسبت ما بيتهم رومانسية مجردة و لم أعلم سباً يثبت صحة ذلك، لكني كرهت أن أجمع أدلة أخرى على بريندا ليونايدز، كنت أشفق عليها من عائلة تكنّ لها العداء و هي متجمعة عليها قبوة. لو كان مثل هذه الرسائل بينهما فلا شك أن تافيرنر و أعوانه سيجدونها، كنت أكره أن أكون سبا في طرح نهمة جديدة على امرأة تعيش وضعاً صعباً! ثم إنها أكدت لي بهدوء أنه لم يكن بينها و بين لورانس أية علاقة، و شعرت أني أميل إلى أن أصدقها أكثر من تلك ((القزم الحقود)) جوزفين! ألم تقل بريندا بلسانها بأن جوزفين لم تكن هناك؟
كتمت قناعتي بأن جوزفين كانت هناك، و تذكرت الذكاء في عينيها السوداوين الصغيرتين.
و كلّمت صوفيا بالهاتف و سألتها إن كانت تأذن لي بالقدوم ثانية؟
- أرجوك أن تأتي يا تشارلز.
- كيف تسير الأمور؟
- لا بأس، ما زالوا يفتشون البيت، عمّ يبحثون؟
- لا أدري.
- إننا جميعاً غاضبون جداً، تعال في أسرع وقت، سوف أحن إذا لم أتكلم مع شخص ما.
قلت لها بأني سآتي إليها فوراً.
لم أرً أحداً و أنا قادم في السيارة إلى الباب الأمامي. أعطيت السائق أجره و نزلت. ترددت: هل أقرع الجرس أم أدخل، فقد كان الباب مفتوحاً.
و بينما أنا كذلك سمعت صوتاً خفيفاً من خلفي. أدرت رأسي بحدة... كانو جوزفين عند فتحتة سياجٍ من الشجر تنظر إليَّ و قد حجبتْ وجهها تفاحةٌ كبيرة، ذهبت تجاهها.
- مرجبا جوزفين.
لم تجبني، لكنها اختفت خلف السياج، و عبرتُ الطريق و تبعتها. كانت تجلس على مقعد خشبي صدئ غير مريح عند بركة السمك و تحرك ساقيها و هي تقضم التفاحة.
كانت تنظر إليَّ باكتئاب و شيءٍ لا أحسبه إلا العداء. قلت:
- ها قد جئت ثانية يا جوزفين.
كانت بداية ضعيفة، لكن كان صمت جوزفين و عيناها الجاحظتان يثيران الأعصاب.
و مازالت صامتة تفكر تفكيراً عميقاً. سألتُها:
- هل هذه تفاحة جيدة؟
هذه المرة تعطّفت جوزفين و أجابت بكلمة واحدة:
- غامضة!
- أمر مؤسف! لا أحب التفاح الغامض.
ردّت جوزفين بازدراء:
- لا أحد يحب ذلك.
- لم لم تكلميني حين قلت
(مرحبا))؟
- لم أكن أريد ذلك.
- لماذا؟
أبعدت جوزفين التفاحة عن وجهها لتساعد في توضيح شجبها و قالت:
- لأنك ذهبت و أبلغت الشرطة.
تفاجأْت:
- ها! تقصدين... بخصوص...
- بخصوص العم روجر.
- لكن لا بأس يا جوزفين لا بأس. إنهم يعرفون أنه لم يقترف ذنباً، لم يختلس مالاً أو شيئاً كهذا.
نظرتْ جوزفين إليَّ نظرة ساخطة:
- كم أنت غبي!
- إني آسف!
- لست قلقة على العم روجر؛ لكن هذا ليس أسلوب العمل البوليسي. ألا تعرف أنه ينبغي أن لا تخبر الشرطة حتى النهاية؟
- ها! فهمت. إني ىسف يا جوزفين. إني آسف حقاً!
- يجب ان تشعر بالأسف، لقد كنت أثق بك!
قلت لها مرة ثالثة بأنني آسف. بدت جوزفين هادئة، قضمت التفاحة مرتين و قلت لها:
- لكن الشرطة سيكتشفون كل شيء. إنك... إنني... نحن لا نستطيع أن نكتم الأمر طويلاً.
- تقصد لأنه كاد يفلس؟
كانت جوزفين – كعادتها – عالمة بالأمر. و قلت:
- ربما. أظن أن الأمر سيصل إلى ذلك الحد.
- سيتحدثون هذه الليلة: والدي و والدتي و العم روجر و الخالة إيديث. سوف تعطيه الخالة إيديث مالها لكنها لم تأخذه بعد، أما والدي فلا أظنه يعطيه، إنه يقول
(إن كانت روجر قد وقع في مأزق فعليه أن يلوم نفسه، و ما فائدة تبذير المال في مشروع خاسر؟))، كما أن أمي لن ترضى أن تعطيه جنيهاً واحداً لأنها تريد من والدي أن يعطي المال إلى إيديث تومبسون. هل تعرف إيديث تومبسون؟ كانت متزوجة من رجل لم تحبه، و كانت تحب شاباً يدعى بيواترز، و قد نزل من السفينة و سار في شارع مهجور بعد المسرح فطُعِنَ في ظهره.
تعبت مرة أخرى من نضج معلومات جوزفين و الفهم الدرامي الذي قدم جميع الحقائق البارزة بإيجاز. قالت جوزفين:
- إن الأمر يبدو طبيعياً، لكني لا أظن أن المسرحية ستكون كهذه على الإطلاق، سوف تكون مثل جيزبيل مرة أخرى... – و تنهدت – كنت أتمنى أن أعرف لمَ لم تأكل الكلاب راحتيها؟
- جوزفين، هل قلت بأنك متأكدة من هوية القاتل؟
- حسناً؟
- من هو؟
نظرت إلي نظرة ازدراء، فقلت:
- فهمت. لن تخبريني إلا عند الفصل الأخير؟ فإذا وعدتك ألا أخبر المفتش تافيرنر؟
- بل أريد بعض الأدلة الأخرى.
و جعلت تلقي لبّ التفاحة في حوض أسماك الزينة، ثم أضافت قائلة:
- على أية حال ما كنت سأخبرك بذلك لأنك تشبه واطسون في قصص شيرلوك هولمز.
تحملتُ هذه الإهانة و قلت:
- حسناً. أنا واطسون، لكن واطسون عرف أسراراً!
- ماذا عرف؟
- الحقائق، ثم بعد ذلك اجتهد فأخطأ، ألَنْ يكون أمراً مسلياً لك أن أسمع منك ثم ترينني أقوم باستنتاجات خاطئة؟
أُغريتْ جوزفين لحظة، لكنها بعد ذلك هزت رأسها و قالت:
- لا، و على كل حال فأنا لا أحب قصص شيرلوك هولمز... إن أسلوبها قديم و يركب أبطالها عربات تجرها الكلاب!
- و ماذا عن تلك الرسائل؟
- أية رسائل؟
- رسائل لورانس براون و بريندا.
- لقد اخترعتها.
- لا أصدقك.
- نعم، إنها كذبت اخترعتها! إنني أخترع كثيراً أشياء من هذا النوع، فهذا يسليني.
حدقتُ فيها و حدقتْ إليّ:
- اسمعي يا جوزفين: أعرف رجلاً في المتحف البرطاني مطّلعاً على القصص التاريخية. لو سألته: لم لَمْ تأكل الكلاب راحتي جيزبيل فهل تخبرينني عن هذه الرسائل؟
هذه المرة ترددت جوزفين حقاً. ثم في مكان ليس بعيداً انكسر غصن شجرة و أحدث صوتاً حاداً. قالت جوزفين ببرود:
- لا، لن أخبرك.
رضيتُ بالهزيمة. و في وقت لاحق من ذلك اليوم تذكرتُ نصيحة والدي. أما في تلك اللحظة كررت المحاولة:
- حسناً... إنما هي لعبة. أنت لا تعلمين شيئاً.
قدحت عين جوزفين لكنها قاومت الإغراء، نهضتُ و قلت:
- هيا، يجب أن أدخل الآن لأبحث عن صوفيا.
- سأقف هنا.
- لا. لن تفعلي. سوف تدخلين معي.
شددتُها بغلظة حتى تقف على قدميها فتفاجأتْ، احتجّتْ لكنها استسلمت عن طيب خاطر منها، ربما لأنها كانت ترغب ملاحظة ردود فعل أهل البيت عند حضوري.
لم أدرك في تلك اللحظة سرَّ حرصي على اصطحابها معي إلى البيت، و لكن السبب ما لبث أن خطر بالي و نحن ندخل من الباب الأمامي:
كان السبب هو انكسار الغصن المفاجئ!